الاثنين، 3 مارس 2014

جدّي "أبو عرب" ... هؤلاء أوصلوا لنا السلام

رفّ جفنه قليلاً. نظر إلى طاقة الغرفة بعين تحتفظ بملح "الدمع" دون سائله. راح يروي كل الحكايا بمخيّلته هذه المرة. وخُيّل لمن حوله بأنه مستقرّ الآن بين الحلم واليقظة.

... عامه الثالث والثمانين اكتمل قبل أشهر، ولسانه لم يتوقّف يوماً عن الإنشاد إلا في هذه اللحظة ! لحنه لم يقوَ -ربما- على التناغم أكثر وراحت ذاكرته "تنسج" كل الكلام فعلاً.

ابنه "معن" الذي استشهد في اجتياح لبنان عام 1982، ووالده الذي دُفن في كفر كنّا القريبة من قريته "الشجرة" عام 1948. صورهم وصور آخرين، قصصهم وقصص آخرين، ذكراهم وذكرى آخرين، لقاءهم ولقاء آخرين ... هكذا صِيغ اللحّن الأخير لشاعر الثورة الفلسطينية "أبو عرب" -ابراهيم محمد صالح، فوق سرير المستشفى بمدينة حمص السورية.

رحل أبو عرب  في الثاني من آذار وظلّت "توتة" الدار تتساءل "أين ذهب الحبيب ؟" حيث زار -أثرها- مرّة واحدة بعد 64 عام على الغياب.

توتة الدار ...
تساقطت وريقات أشجار "التوت" مجتمعة في قرية الشجرة دون "خريف"، هبّت عليها نسمة هواء بين البرودة والدفء ... حينها فهمت أن "حبيبها" هي أيضا رحل. كلها كان "تغار" من شجرة التوت التي غنّى لها أبو عرب حيث كان منزله. 

بحث عن "التوتة" بعد 64 عام من الغياب قبل عامين من الآن في زيارته الوحيدة والأخيرة لمسقط رأسه الشجرة. حينها لم يجد التوتة التي وعدها بأن نعود يوماً ... نعم ... ولكن عكس بقية الأشجار. نبتَت هي اليوم !

والدة الشهيد  (روى عنها حكاية "دقّة الباب") ...
تتحسّس ساعد باب منزلها من جديد. تُشعر أن "دقّته" الشهيرة قبل 30 عاماً كانت حدثاً  انتهى اليوم فقط ! المروّج الأكبر لحكايتها ذهب دون عودة ! وظلّ لحنه ... كان يردّ  "يا يما في دقة ع بابنا" فتبكي هي فرحاً وطرباً.

اليوم أغلقت الباب بهدوء وسكينه ووعدت كل مَن بالحيّ أن تجعله ملجأْ لكل مظلوم ومطارد. 

 الطير ...
سمِع أبو عرب يناجيه يوماً "يا طير خذني ع الوطن وديّني". حضَر لإلقاء السلام الأخير على صاحبه. سيأخذ معه "مرسالاً" فيه سلام أبو عرب الأخير على مُدن فلسطين وقراها أيضاً ...
أبو عرب قال له يوماً: "سّلم ع عكا وع الجليل العالي ، بيرزيت وحيفا، الطيرة وعين غزالي ... ع القدس، ويافا مع غزة وجباليا ع نابس رام الله ومع جنين ... ع الشجرة على البيرة مع حطين ..."
سماء فلسطين اليوم حَبلى بالطيور ! تُرى ... طير أبو عرب أي واحدٍ فيهنّ؟ تجيب الطيور بزقزقتها (هكذا أتخيّل): كلنا !

البحر ...
هذه المرّة لم يرفض طلب "أبو عرب". نفّذ طلبه بخشوع تام. ظلّ هادئاً اليوم ... وكلما اقتربت سفينة من ساحله تدور في أحشائه "طولنا بغيبتنا" ! يتساءل البحر "كم سأنتظر؟". ويُفضّل إيصال "السلام" لأهل أبو عرب قبل أن ينسوه.

جدّي ... وعدٌ منّا. سيظلّ ذكراك. ليس لأننا "نحبّك" وحسب، وإنما لأنك كنت صوتنا بالفعل. لك أن تتخيّل  يا جدّي بأننا نردد كلماتك بعد إنشادك لها بثلاثين عاماً ونشعر أنها قد قيلت اليوم !

دعائي أن تلتقي ابنك ووالدك وأحباءك في الجنّة. ونحن اللاحقون. 

جدّي ... وصلت رسالتك. وعليك السلام 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق