حاولت أن "أستظرف" على صديقي هشام الذي يقطن مدينة خانيونس وهي التي تتعرض للقصف أسوةً بزميلاتها من مدن قطاع غزّة. ورحت اسأله عن سبب صحوته "العنكبوتية" المفاجأة حتى الساعة 2 فجراً أمس: "ايش الدعوة ... شايفك أون لاين بزيادة اليوم؟".
استظراف صغته بناء على ملاحظة بسيطة بعد أن "تفاجأت" فعلاً بأن الضوء الأخضر بجانب اسمه في مربّع المحادثة اجتاز ساعاته الثلاثة المعهودة في أيام العدوان، إذ كانت العادة تسير على نهج 3 ساعات هنا و3 في منطقة أخرى وهكذا لتوزيع مخزون الطاقة الكهربائية.
في غزّة يحدث العجب العجاب، وهناك هموم "تبُكي" صاحبها ألماً وتضحكه أحياناً قليلة. وحكاية "الأون لاين" هذه تشبه هذا الوصف في تفاصيلها ربّما.
يقول هشام بأن سبب استمرارية التيار الكهربائي في منزله لأكثر من 3 ساعات جاءت بمساعدة طيارة "ف16" الاسرائيلية! هذه الطائرة أبقت التيار الكهربائي حيّاً في منزله ... كيف ؟
القصة باختصار أن طائرات الاحتلال استهدفت موظفي شركة الكهرباء العاملين في قطاع غزّة أثناء قيامهم بمهمّة فصل التيار الكهربائي عن الجزء الشرقي لمدينة خانيونس (الذي يسكنه هشام)، لأجل اتاحته للجزء الآخر الغربي من المدينة في روتين يوميّ. وبعد أن تمت عملية استهداف الطاقم، أصيب 3 عاملين بجروح مختلفة قبل أن يتمكنوا من آداء مهمّة رفع "المفتاح" على الغرب من أجل فصله عن الشرق.
حيّ الأمل الذي يسكنه الصديق أكل وشبع من الكهرباء ليلة أمس، وشعر بنشوة أن تُضاء الكهرباء لأكثر من 3 ساعات يومياً أو 8 ساعات بأحسن الأحوال كما جرت العادة منذ العام 2008. هذا على عكس ما حدث في الجزء الآخر من المدينة أو المناطق الأخرى بطبيعة الحال.
الضوء الأخضر ظلّ مشتعلاً في محادثة الاطمئنان، والشكوى، والأمل، والفرح، والتعاسة، والحزن، والقوةّ، والعزيمة، والتفاؤل، والتشاؤل، والنصائح، والقصص، والحكايا، والدموع -أحياناً- ... إلى حين.
هذا الحين ... سيظلّ إلى أن يرفع الحصار ربمّا، بل كما يشتهي القلب. لتعيش غزّة كما مثيلاتها في كل أنحاء العالم ... ضوءاً أخضراً ينبعث من الشاشات والنفّوس والأراضي التي يجب أن تُفلح أملاً ونصراً في الغدّ.
ببساطة .. أسقطتنا أول "مفرقعة" واختلفنا. البعض حوّلته صدمة إطلاق الألعاب النارية إلى عاقد الحاجبين! والآخر ضدّه استند لبيت شعر أو مطلع أنشودة تحثّ على الفرح من رحم المواجع يدافع بها عن "فقاعته".
الآن وقد سقطنا في اختبار سهلٍ كهذا. أرى بأن علينا أن ننظر دائما إلى ما أبعد من الحدث الذي يفرّقنا. نعم أطلقت الألعاب النارية ابتهاجاً بنجاح كثيرين في امتحانات الثانوية العامة. ولكن ذاتها الضفة الغربية التي اطلقت هذه المحظورات الآن في ظل العدوان على غزّة، سبق وأن "أُختِبرت" بحسّها الوطني كثيراً في أوقات سابقة وأظهرت نبضاً مرتفعاً.
انتفاضة الأقصى بما شملته من مواجهات دامية في مدينة رام الله مثلاً. أسطورة مخيّم جنين. أسود البلدة القديمة في مدينة نابلس. هؤلاء .. ذويهم .. أقاربهم مَن اطلقوا الألعاب اليوم ونعتناهم بغير المبالين والخوّافين كانوا أبطالاً بألعاب نارية تُطلق في الشوارع والأزقة وعند خطوط التماس.
أيها الناس اعتلوا منطقة "الاختلاف". ارتقوا فوقها. وتعالوا نفكّر فيما بعد هذه الحادثة المؤقتة. مثلا: هل طرح أحدكم سؤالاً على شاكلة كيف تضامن -هو- مع غزّة ؟ وهل يكفي "بوست" الفيس بوك؟ وماذا سيكتب غداً على صفحته بعدما تصمت الألعاب النارية ؟
ربما ليس من المنطق أن نكتب حرفاً إضافياً على ما قدّمه منتخب الجزائر في مباراته أمام ألمانيا بثمن نهائي كأس العالم . ليس منطقياً أن نفتي في تشكيلة الجزائر بعد إبداع البوسني الماهر "خليلودزيتش" الذي صاغ توليفته بحنكة تدريبية فريدة.
ولكن في القلب أمنية. أمنيةٌ بأن أشاهد الجزائر مجدّداً في "مونديال البرازيل" !. فمن هو صاحب القرار؟ أهو بلاتر رئيس "الفيفا"؟ أم هابيلانج رئيسة اللجنة المنظم للفيفا؟ أم أحداً غيرهم؟ لأؤلئك أقول: أعيدوا الجزائر للمونديال يا سادة.
اعيدوا لنا الجزائر. أعيدوها للمونديال ... بإمكانكم أن تختبروا قوّتها من جديد. في مجموعة الموت مع البرتغال وألمانيا وأمريكا بدلاً من غانا، أو في أي مجموعة أخرى لتتأكدوا بأم أعينكم أنها استحقت الوصول إلى دور 16.
وبعدها أختبروا قوتها في دور 16 مع أصحاب الدار لتروا كيف ستلقّن الجزائر البرازيليين مهارات كرة القدم بفيغولي وبراهيمي وغلام. وهل أنتم بحاجة للتأكد من قوّة الجزائر بعدما حصد لاعبو الجزائر جائزة رجل المباراة في 3 مباريات من أصل 4 لعبوها ؟
إلى رئيس الاتحاد الجزائري لكرة القدم "محمد روراوة" أرجوك ابعث مرسالاً للفيفا واكتب فيه "اختبرونا كما شئتم وكيفما شئتم. ولكن أعيدونا للمونديال".
أيها الناس .. أرجوكم .. أعيدوا لنا مَن كان مدعاة "تفاؤلنا" طيلة أسبوعين من الزمان وسنين إلى الأمام. أعيدوا لنا طاقة "الأمل" .. أعيدوا لنا "الرجال" نُكحّل بهم وفيهم العيون .. أعيدوا لنا "منتخبنا" .. أعيدوا لنا "عِقار النصار" فكثرة الهزائم خدّرت عزائما!.
أعيدوه فقد استحق النصّر أمام ألمانيا كبيرة المونديال. أعيدوه ليلعب امام "المانشفت" مجدّدا. متأكدٌ بأن خبرة هؤلاء الشباب ستنمو قليلاً لتعوض فارق التجارب الطفيف الذي حسم المباراة في النهاية.
أيها الجزائريون ... أعيدوه بشتّى الطرق وازرعوه "جمرةً" في عين كل عربي شجّع ألمانيا اليوم .. ذلك الذي شجّعها ليس حباً بها، وإنما حباً في إثبات مثال يحفظه دائماً ويردده بأن "العربي خايب ومهزوم في كل شيء حتى في الكورة"!.
أعيدوه لأجل فلسطين التي تموت من قهرها كل يوم، وفي ذات "الحلبة" ترفع راية الحياة والنصر والإيمان كل دقيقة. أعيدوه لشعوب عربية تُصبح وتُمسي على لحن الدمار والخراب والإعياء.
فكّروا وأعيدوه ... لا تحلو مدرجات البرازيل دون صوت الجزائريين وراية الفلسطينيين وحضور العرب. لا تحلو دون صرخة "دراجي" عبر الشاشة بأن "فعلها الجزائريون"، ولا تحلو أيضاً دون استطراد الشوالي وربطه بين اسم عصّاد وسليماني والمليون شهيد.
قولوا لهم بأن الجزائر ستجلس هادئة بعد ذلك. ستوافق على أن تلعب 10 تصفيات متتالية بدلاً عن واحدة حتى تصل كأس العالم. ستوافق على أن تلعب منقوصة من لاعب ولاعبين عند بداية كل مباراة في تصفيات العالم القادمة. ولكن الآن وفي هذا التوقيت أعيدوهم فلا طعم للمونديال الذي يعني الحياة -هنا- دونهم.
*حقوق النشر محفوظة للكاتب: خليل جاد الله
1-7-2014 . رام الله