الاثنين، 3 مارس 2014

ابن البطة السودة ...

هو جزءٌ من اللعبة وليس كذلك أيضاً ... هو يلبس لباساً لا يشابهه أحد، وأهدافه مختلفة تماماً عن الآخرين، وهو أيضاً شخصٌ يُشتم كثيراً ولا يردّ! ... "حزّر فزّر: من هذا الشخص؟".

سأقرّب لكم المسألة مع أن الوصف أعلاه يكفي للتبؤ بالإجابة لدى "فلسطيني" يشاهد مباريات كرة القدم، ببساطة سأبحث لكم عن التشابه بيننا وبينه إلى جانب الاختلافات أعلاه لكي أقرب لكم الإجابة. هو أيضا من ذات جنسنا، ويملك قلباً بحجم قبضة اليد مثلنا ... لكنه "لا يفرح مع الفائز، ولا يحزن مع الخاسر" ! ... هل عرفتموه؟

أكثركم عرفه أعتقد. نعم هو "حكم المباراة" أو بشكل أدقّ هم "حكّام المباريات" في فلسطين. أشخاصٌ لا يُقال لهم "بوركت جهودكم" إلا ويُردف بعدها "لكن" و "لو" ! يقولون لحكم الساحة بعد المباراة مثلاً : "يعطيك العافية، قدمت مباراة جيدة اليوم، ولكن كنا نستحق ركلة ركنية بدلاً من ركلة مرمى للمنافس في الدقيقة 54 و 22 ثانية من المباراة!".

المهم ارتأيت أن أكتب عن الحكام اليوم، بعدما "أفجعني" مشهد لمشجع في المدرجات ينادي حكم الراية ويمارس معه هذه "الموقف البشع"، إلى جانب مواقف أخرى لا تعدّ.

فخلال مباراة لفريقين من المحترفين قام مشجع بمناداة حكم الراية لأكثر من مرّة وبأكثر من وصف، وبطبيعة الحال لم يصغِ له حكم الراية. بعد دقيقة التفت إليه حكم الراية – تصرف بسجيّته وحاول أن يستفهم سؤال المشجع -، لكن ذلك المشجّع خبّأ ما لم يتوقع ذاك الحكم، وأضمر له "بصقة" كادت تصيب وجهه لولا استدارته السريعة"!.

شتائم مشابهة يسمعها حكّام الدوريات العالمية، ولكن وفي نفس الوقت فإن ما يجعل شتائم جماهيرنا ولاعبينا "موجعة" أكثر، لأنها تمسّ أكثر ما يغار عليه الفلسطيني ... هي تمسّ "شرفه" ومحرّماته بطريقة تجعل العاقل –هنا- يُجنّ معها بفضل خصوصية المجتمع ومحافظته.

جدّي "أبو عرب" ... هؤلاء أوصلوا لنا السلام

رفّ جفنه قليلاً. نظر إلى طاقة الغرفة بعين تحتفظ بملح "الدمع" دون سائله. راح يروي كل الحكايا بمخيّلته هذه المرة. وخُيّل لمن حوله بأنه مستقرّ الآن بين الحلم واليقظة.

... عامه الثالث والثمانين اكتمل قبل أشهر، ولسانه لم يتوقّف يوماً عن الإنشاد إلا في هذه اللحظة ! لحنه لم يقوَ -ربما- على التناغم أكثر وراحت ذاكرته "تنسج" كل الكلام فعلاً.

ابنه "معن" الذي استشهد في اجتياح لبنان عام 1982، ووالده الذي دُفن في كفر كنّا القريبة من قريته "الشجرة" عام 1948. صورهم وصور آخرين، قصصهم وقصص آخرين، ذكراهم وذكرى آخرين، لقاءهم ولقاء آخرين ... هكذا صِيغ اللحّن الأخير لشاعر الثورة الفلسطينية "أبو عرب" -ابراهيم محمد صالح، فوق سرير المستشفى بمدينة حمص السورية.

رحل أبو عرب  في الثاني من آذار وظلّت "توتة" الدار تتساءل "أين ذهب الحبيب ؟" حيث زار -أثرها- مرّة واحدة بعد 64 عام على الغياب.

توتة الدار ...
تساقطت وريقات أشجار "التوت" مجتمعة في قرية الشجرة دون "خريف"، هبّت عليها نسمة هواء بين البرودة والدفء ... حينها فهمت أن "حبيبها" هي أيضا رحل. كلها كان "تغار" من شجرة التوت التي غنّى لها أبو عرب حيث كان منزله. 

بحث عن "التوتة" بعد 64 عام من الغياب قبل عامين من الآن في زيارته الوحيدة والأخيرة لمسقط رأسه الشجرة. حينها لم يجد التوتة التي وعدها بأن نعود يوماً ... نعم ... ولكن عكس بقية الأشجار. نبتَت هي اليوم !

والدة الشهيد  (روى عنها حكاية "دقّة الباب") ...
تتحسّس ساعد باب منزلها من جديد. تُشعر أن "دقّته" الشهيرة قبل 30 عاماً كانت حدثاً  انتهى اليوم فقط ! المروّج الأكبر لحكايتها ذهب دون عودة ! وظلّ لحنه ... كان يردّ  "يا يما في دقة ع بابنا" فتبكي هي فرحاً وطرباً.

اليوم أغلقت الباب بهدوء وسكينه ووعدت كل مَن بالحيّ أن تجعله ملجأْ لكل مظلوم ومطارد. 

 الطير ...
سمِع أبو عرب يناجيه يوماً "يا طير خذني ع الوطن وديّني". حضَر لإلقاء السلام الأخير على صاحبه. سيأخذ معه "مرسالاً" فيه سلام أبو عرب الأخير على مُدن فلسطين وقراها أيضاً ...
أبو عرب قال له يوماً: "سّلم ع عكا وع الجليل العالي ، بيرزيت وحيفا، الطيرة وعين غزالي ... ع القدس، ويافا مع غزة وجباليا ع نابس رام الله ومع جنين ... ع الشجرة على البيرة مع حطين ..."
سماء فلسطين اليوم حَبلى بالطيور ! تُرى ... طير أبو عرب أي واحدٍ فيهنّ؟ تجيب الطيور بزقزقتها (هكذا أتخيّل): كلنا !

البحر ...
هذه المرّة لم يرفض طلب "أبو عرب". نفّذ طلبه بخشوع تام. ظلّ هادئاً اليوم ... وكلما اقتربت سفينة من ساحله تدور في أحشائه "طولنا بغيبتنا" ! يتساءل البحر "كم سأنتظر؟". ويُفضّل إيصال "السلام" لأهل أبو عرب قبل أن ينسوه.

جدّي ... وعدٌ منّا. سيظلّ ذكراك. ليس لأننا "نحبّك" وحسب، وإنما لأنك كنت صوتنا بالفعل. لك أن تتخيّل  يا جدّي بأننا نردد كلماتك بعد إنشادك لها بثلاثين عاماً ونشعر أنها قد قيلت اليوم !

دعائي أن تلتقي ابنك ووالدك وأحباءك في الجنّة. ونحن اللاحقون. 

جدّي ... وصلت رسالتك. وعليك السلام