زمان. ليس بعيداً كثيراً، كنت أقضي وقتاً طويلا على
شرفة المنزل، تلك المطلّة على جبالٍ كبيرة، وعلى وشارع يقسم بلدتنا عن البلدة المجاورة.
أتابع حركة المركبات، واقتنص غزالاً تدحرج للتوّ عن التلال القريبة، وأبلع كماً لا
بأس به من "الصابون" الذي كنا نستخدمه لصناعة "البلالين"
المائية ونجعلها تحلق عالياً.
أنا وأخوتي كنّا نمارس لعبة لا أعرف ما أسميّها الآن
على تلك الشرفة أيضاً. كانت لعبةً بمبدءٍ بسيطٍ للغاية، لا تعتمد بالمرة على
الذكاء، وإنما على الصدفة المحضة، أو الانتهازية الفجّة.
تمرّ السيارات مسرعةً على شارعٍ نام فوق أرض جدّي -قبل سرقتها- واستراح. سريعةُ وكثيفة حركة تلك المركبات، ولعبتنا تبدء مع أول فتحة عين على الشارع بعد
فتح باب الشرفة. نجلس أولاً، ندلّي أقدامنا من بين قضبان الحديد التي تحمينا من
السقوط. ونقرر بأن هذا سيختار اللون الفلاني وذاك سيختار اللون الآخر وهكذا. ويفوز
من تمرّ عن الشارع عدد سيارات أكثر من جنس اللون الذي اختار.
الذكيّ منّا كان يختار اللون الأبيض. وغالباً كان
أكبرنا، ويختار اللون غصباً. كان عدد السيارات "البيض" كبيراً. وتغيرت الآية بعد مدّة فدخل
اللون "البرتقالي" منافساً، بعدما اعتمد كلون للمركبات العمومية في
فلسطين.
جلست أمس في ذات المكان. حدّقت طويلاً وجرّبت خوض
تلك اللعبة مرّة جديدة، دون "رفيق"، ولكن على سبيل التجربة. بحثت طويلاً
عن اللون البرتقالي فلم أجده! حدّقت جيداً في التلال فلم أشاهد أي غزال شارد
أيضاً، فتذكرت مباشرةً أصوات "الخنازير البريّة" التي تحاصر منازل
القرية مساءً، إذ يُشاع ويُثبت كثيراً بأن الاحتلال يتخلص منها في الجبال المطلة على
بلداتنا.
اليوم لا يمرّ عن "شارع الطفولة" سوى السيارات "الغريبة"، هي سيارات الإحتلال، بمختلف الألوان سوى "البرتقالي". ولا
شكّ في أن المعادلة اختلفت تماماً اليوم، فشارع 443 (القدس - تل أبيب) بين أعوام التسعينات إلى اليوم
هو اختصار بدلالة لا بأس فيها لكمّ هائل من حالات الاقصاء، والعنصرية، والإحلال
الذي لم يتمّ صدفةً.
أتساءل حقاً ... لو جلس ابن اخي الصغير الآن على ذات
الشرفة، وعلمناه تلك اللعبة ... أي مركبة سيختار؟ دبّابة قصفت غزة ؟ جيب أطلق
الرصاص على "عدي"؟ أم سيارة مستوطن اشتهى الزعتّر الفلسطيني فنزل من سيارته
وعلى جانب الشارع "خلع" بيت الزعتر من جذوره!
شارع الألوان صار شارع "الألغام" تماماً الآن.